دور المنظمات الدولية والإقليمية في تسوية المنازعات الدولية
المقر الرئيسي لهيئة الأمم المتحدة بمدينة نيويورك/ الولايات المتحدة (مصدر الصورة)
الكلمات المفتاحية: السلم والأمن الدوليين, المنازعات الدولية, مجلس الأمن, الجمعية العامة, الأمم المتحدة, المنظمات الدولية, المنظمات الإقليمية, تسوية المنازعات.
لقد أصبح المجتمع الدولي تهيمن عليه علاقات متشابكة ومعقدة تتنوع وتتباين فيها الأهداف والمصالح, مما خلق بيئة مبوءة بالشكوك والتصدامات, وأدخلها في خلافات ومنازعات منبثقة عن مبررات وأسباب عديدة. وحتى لا تعم الفوضى وحتى لا تدخل الأمم والشعوب دوامة المنازعات والحروب, كان لابد من إيجاد الهيئات والمؤسسات التي تنظم المجتمع في هيكل منظم بطريقة تراعي جميع الأهداف والمصالح المشروعة, وفرض الضوابط والإلتزامات ( القانونية والعرفية) التي تكفل تحقيق العدالة وكفالة احترامها, ووضع الجزاءات التي تترتب على مخالفتها معاقبة المخل وتحمله على احترامها, وتردع غيره عن أن يحتذي خطاه, تتنتاسب مع جسامة وحجم المخالفة. وأي مجتمع لا يستطيع إلزام أعضاءه بأحكامه وقواعده هو مجتمع قبلي هش غير فعال وآيل للإنهيار.
1- مقدمة:
لقد كان من أهم وسائل الحفاظ على السلم والأمن الدولي هى إنشاء المنظمات الدولية أو الإقليمية ( التي تضم في عضويتها مجموعة من الدول), تتفق فيما بينها على تسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية, ولضمان ذلك ألزمت ( اتفق) الأعضاء على عدم اللجوء إلى القوة في تسوية هذه المنازعات, وقررت مجموعة من التدابير ضد الدولة التي تخالف ذلك. بل قُل أن حفظ السلم والأمن الدوليين لطالما كان هو الدافع الأول والأهم وراء إنشاء المنظمات الدولية والإقليمية؛ فقد اقترنت أكثرية المنظمات الدولية والإقليمية أهدافها بحفظ السلم والأمن الدوليين؛ فبدون السلم أو الأمن لن تستطيع المنظمات الدولية أن تحقق الأهداف التي أُنشئت من أجل تحقيقها, ومصيرها - حتما- حلها وإنهاءها. وكأين من منظمة فشلت في تحقيق السلم والأمن الدوليين فكان مصيرها أرشيف التاريخ, وما منظمة " عصبة الأمم" عنا ببعيد. لذا نجد أن مواثيق المنظمات العالمية ( الأمم المتحدة) والوكالات المتخصصة والمنظمات الإقليمية تنص في أكثر من مادة على ضرورة إلتزام أعضاءها باللجوء إلى التسوية السلمية للمنازعات التي قد تثور بينهم, وتبوأ مبدأ حفظ السلم والأمن الدوليين أو الإقليميين قمة أهدافها؛ فنجد أن منظمة الأمم المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية جاءت لتتصدر ديباجتها بنصها:" نحن شعوب الأمم المتحدة, وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب, التي, في خلال جيل واحد ( 1914 - 1945), جلبت على الإنسانية مرتين ( الحربين العالميتين الأولى والثانية) أحزانا يعجز عنها الوصف", وحرصا على عدم تكرار ذلك فقد أخذت المنظمة على عاتقها " إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب", ومن هنا كان حفظ السلم والأمن الدوليين ( وتحقيق الأمن الجماعي) هو الهدف الأول والأهم من إنشاء المنظمة؛ عن طريق تحريم استخدام القوة أو حتى التهديد بها - مجرد تهديد- في العلاقات بين الدول.
وأما بالنسبة لدور المنظمات الإقليمية فقد أصبح دورها يضاهي - إن لم يزيد عن- دور المنظمات الدولية في تسوية المنازعات الدولية [1]. والمنظمات الدولية الإقليمية هى نوع من الإتحاد التعاهدي بين الدول الداخلة فيه, قائم على نوع من الروابط المشتركة ( مثل: وحدة الدين أو الجنس أو اللغة أو الجوار الجغرافي أو المصالح.. أو غيرها) بين الدول الأعضاء. وتختلف قوة وفاعلية المنظمة في أداء وظائفها وخصوصا قدرتها على حفظ السلم والأمن الإقليميين من منظمة إلى أخرى بحسب القدر من الإختصاصات ( السلطات) والتنازلات ( السيادية) التي أعطتها الدول أعضاء المنظمة لها. ويمكن تلخيص دور المنظمات الدولية والإقليمية في تسوية المنازعات الدولية من النواحي الآتية:
أ- أن المنظمات الدولية تعتبر مكانا يجتمع فيه كل الدول الأعضاء تحت قبة واحدة, مما يهيئ أرضا مشتركة لإلتقائهم ويوحد جهودها نحو الأهداف التي أنشئت من أجلها, مما يجعلها أكثر فاعلية في مواجهة المشكلات التي تواجهها المنظمة والدول الأعضاء.
ب- أن المنظمة قد أنشئت لتحقيق الأهداف المحددة في ميثاقها المنشئ مما يجعلها ( بواسطة أجهزتها الرئيسية والفرعية) أكثر تفرغا لهذه المهمة.
ج- أن تدخل المنظمات الدولية لحل المنازعات الدولية, بوجه عام, أقل حساسية بالنسبة للأطراف بإعتبار أن المنظمة لها شخصيتها المستقلة عن الدول الأعضاء فيها, وليس لها مصالح خاصة من وراء التدخل في المنازعات التي تنشب بين الدول الأعضاء.
د- أن المنظمات الدولية أو الإقليمية لديها, غالبا, سلطات واسعة تمكنها من أداء وظائفها على أكمل وجه, وتكون أكثر تأثيرا وفاعلية في فض المنازعات التي تنشب بين الدول الأعضاء بل والدول غير الأعضاء.
ه- لعب دور الوساطة؛ فقد نصت العديد من مواثيق المنظمات الدولية والإقليمية على لعب الأمين العام لها دور الوسيط في المنازعات التي قد تقوم بين أعضاءها.
2- دور الأمم المتحدة في مجال تسوية المنازعات الدولية:
من المتفق عليه أن دور الأمم المتحدة قد تطور في الآونة الأخيرة في كافة مجالات العلاقات الدولية, وأصبح لها القدرة على تطوير منظومة القواعد والقيم التي تحكم هذه العلاقات, كما أصبحت قادرة على فرض العقوبات الرادعة على الدول المخالفة لهذه القواعد والقيم وتنتهك السلم والأمن الدوليين أو تنتهك حقوق الإنسان, وإجبارها على السير والإنصياع في طريق الشرعية الدولية. كما أصبحت قرارتها, بالرغم من أنها مجرد توصيات غير ملزمة, عدا تلك التي يصدرها المجلس بموجب أحكام الفصل السابع, أكثر قبولا وانصياعا من قبل الدول الأعضاء بل وغير الأعضاء. وعلى كل حال؛ هناك مبدأين أساسيين تقوم عليها الأمم المتحدة وتلتزم بهما الدول الأعضاء وغير الأعضاء في علاقاتها الدولية, وفي سبيل تحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها المنظمة, وهما:
أ- مبدأ تحريم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية: نص على هذا المبدأ المادة 2/ د بأنه:" يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد بإستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الإستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".
ب- مبدأ فض المنازعات الدولية بالوسائل السلمية: نصت على هذا المبدأ المادة 2/ ج بأنه:" يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عُرضة للخطر". ومن أجل ذلك ( م 33/ أ) يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر أن يلتمسوا حله - بادئ ذي بدء- بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية, أو أن يلجئوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها إختيارها".
وذكرت المادة السابقة " بادئ ذي بدء": ومن ثم لا يجوز لأي طرف في نزاع أن يعرضه على مجلس الأمن قبل محاولة تسويته بإحدى تلك الوسائل. ومع ذلك فإنه إذا لم تكن هذه الوسائل مثمرة أو لا يأمل منها أن تكون كذلك, فإنه ليس على المجلس أن يقف ساكنا إزاء حدوث تهديد للسلم والأمن الدوليين أو خرق له, بل يتعين عليه أن يتدخل وممارسة الصلاحيات المنصوص عليها في الميثاق ( الفصلين السادس والسابع). ولا يشترط استنفاد جميع الوسائل المذكورة في المادة السابقة لتسوية النزاع قبل عرضها على المجلس؛ فيكفي أن يتبين من موقف أطراف النزاع نيتها في عدم تسوية النزاع. فالمسألة - من ثم- تقديرية؛ فقد يلجأ الأطراف إلى أكثر من وسيلة, قبل تدخل المجلس, ما دام قد تبين له وجود حسن نية حقيقية لديهم في تسوية نزاعهم, في حين أنه قد تنتفي هذه النية حتى قبل اللجوء إلى أية وسيلة سلمية لتسوية نزاعهم. كما يلاحظ أن المادة نصت على وجوب إلتزام " أطراف أي نزاع" دون تفرقة بين الدول الأعضاء أو غير الأعضاء إنسجاما مع نص المادة 2/ و: بأن تسير الدول الأعضاء فيها على هذه المبادئ بقدر ما تقتضيه ضرورة حفظ السلم والأمن الدوليين. كما أن لأطراف النزاع أن يتفقوا جميعا على الطلب من مجلس الأمن أن يقدم إليهم توصياته بقصد حل النزاع حلا سلميا ( م 38), مع ملاحظة أن المجلس غير ملزم بتقديم هذه التوصية.
فإذا أخفقت الدول الأطراف في نزاع من المشار إليه في حله بالوسائل السابقة وجب عليها - حينئذ- أن تعرضه على مجلس الأمن ( م 37/ أ). وقد ذكرت تلك المادة:" الوسائل السابقة"؛ مما يفيد وجوب استنفاد هذه الوسائل في فض النزاع بادئ ذي بدء قبل عرضه على المجلس, وذلك متى كانت هناك نية خالصة وجدية في تسوية النزاع. لكن متى انتفت هذه النية أو توقع بالفشل لهذه الوسائل, فإنه من غير المنطقي إضاعة الوقت فيما لا يرجئ منه.
ومن هنا يظهر بوضوح مدى حرص ميثاق الأمم المتحدة وتأكيدها على حل المنازعات الدولية بالطرق السلمية, وسوف نتناول دور الأمم المتحدة في حل المنازعات الدولية بتناول دور الجهازين الرئيسين فيها, واللذين عهدا إليهما الميثاق تحقيق هذا الهدف؛ وهما: الجمعية العامة ومجلس الأمن, وكذلك نتعرض لدور الأمين العام.
أ- الجمعية العامة:
تتألف الجمعية العامة من جميع أعضاء الأمم المتحدة, فهى الجهاز العام للمنظمة, والتي تضم تحت سقفها كل الدول الأعضاء, ومن أجل ذلك, فإنها تتمتع بإختصاصات شاملة, بما في ذلك مجال حفظ السلم والأمن الدوليين؛
فللجمعية العامة - أولا- أن تناقش أية مسألة تكون لها صلة بحفظ السلم والأمن الدوليين يرفعها إليها أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو دولة ليست من أعضائها ( طرفا في النزاع وتقبل مقدما - في خصوص هذا النزاع- إلتزامات الحل السلمي المنصوص عليها في هذا الميثاق), ولها أن تقدم توصياتها بصدد هذه المسائل للدولة أو الدول صاحبة الشأن أو لمجلس الأمن أو لكليهما معا. مع مراعاة قيد هام ( المادة 12/ ب) هو أنه عندما يباشر مجلس الأمن - بصدد نزاع أو موقف ما- الوظائف التي رُسمت في الميثاق, فليس للجمعية العامة أن تقدم أية توصية في شأن هذا النزاع أو الموقف إلا إذا طلب ذلك منها مجلس الأمن. ومن أجل ذلك, وحرصا على عدم تكرار نفس الخطأ الذي وقعت فيه منظمة عصبة الأمم, وحتى لا يحدث إزدواج في اختصاصات المجلس والجمعية, أو أن يتعرض كلا من الجمعغية العامة ومجلس الأمن لنفس المسألة في وقت واحد, فإن الأمين العام - بموافقة مجلس الأمن- يخطر الجمعية العامة في كل دور من أدوار إنعقادها, بكل المسائل المتصلة بحفظ السلم والأمن الدوليين التي تكون محل نظر مجلس الأمن. فإذا أصدرت الجمعية العامة توصياتها بشأن المسألة المطروحة, مع مراعاة المادة 12/ ب, فإنها تكون مجرد توصية خالية من أية قوة ملزمة حتى بالنسبة للدول التي صدرت التوصية بشأنها. وإذا كان النزاع أو الموقف من الضروري فيها القيام بعمل ما ( مثل: التدابير العسكرية أو غير العسكرية), فينبغي على الجمعية أن تحيلها إلى المجلس.
كما أن لها - ثانيا- أن تسترعي نظر مجلس الأمن إلى الأحوال التي يحتمل أن تعرض السلم والأمن الدوليين للخطر [2]. وإن كان هذا الإسترعاء لا يلزم المجلس بنظره أو إصدار قرار بشأنه.
ولها أيضا - ثالثا- مع مراعاة المادة 12/ ب- أن توصي بإتخاذ التدابير لتسوية أي موقف, مهما يكن منشؤه, تسوية سلمية متى رأت أن هذا الموقف قد يضر بالرفاهية العامة أو يعكر صفو العلاقات الودية بين الأمم, ويدخل في ذلك المواقف الناشئة عن انتهاك أحكام هذا الميثاق الموضحة لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
ومن أجل ذلك؛ واستنادا إلى نص المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة التي تخولها إنشاء فروع ثانوية حسب ما تراه ضروريا للقيام بوظائفها, قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة, ومن أجل قيامها بمهامها على أكمل وجه, بإنشاء " الجمعية المصغرة" عام 1947 تتكون من مندوب واحد عن كل دولة من الدول الأعضاء بالجمعية العامة, وتنعقد بصفة مستمرة فيما بين أدوار إنعقاد الأمم المتحدة ( العادية) وبحث المسائل التي عرض عليها خصوصا تلك المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين ( مع مراعاة المادة 12/ أ), ودعوة الجمعية العامة - إذا رأت ضرورة لذلك- إلى دورات استثنائية [3].
ب- مجلس الأمن:
مجلس الأمن هو الجهاز الدائم للأمم المتحدة, وأداتها التنفيذية, فضلا عن أنه صاحب الإختصاص الرئيسي في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين. ويتألف مجلس الأمن من 15 عضوا من الأمم المتحدة. وتكون جمهورية الصين, وفرنسا, وروسيا, والمملكة المتحدة, والولايات المتحدة أعضاءا دائمين فيه. بينما تنتخب الجمعية العامة الأعضاء العشرة الآخريين من الأمم المتحدة ليكونوا أعضاءا غير دائمين في المجلس. ويُنظم مجلس الأمن على وجه يستطيع معه العمل بإستمرار, ولهذا الغرض يمثل كل عضو من أعضائه تمثيلا دائما في مقر الهيئة.
أما بالنسبة لإختصاصات وسلطات المجلس, فقد نصت المادة 24/ ب:" يعمل مجلس الأمن, في أداء هذه الواجبات ( التبعات الرئيسية لحفظ السلم والأمن الدوليين) وفقا لمقاصد الأمم المتحدة, ومبادئها والسلطات الخاصة المخولة لمجلس الأمن لتمكينه من القيام بهذه الواجبات مبينة في الفصول السادس والسابع والثامن..". فوفقا للفصل السادس ( حل المنازعات الدولية بالوسائل السلمية) فإن دور المجلس دورا مانعا لإستمرار النزاع أو تفاقمه الذي من شانه تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر, وتحقيقا لهذه الغاية:
لمجلس الأمن - أولا- أن يفحص أي نزاع أو أي موقف ( قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو قد يثير نزاعا)؛ لكي يقرر ما إذا كان استمرار هذا النزاع أو الموقف من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدوليين. ومن أجل ذلك, فإن للجمعية العامة أن تسترعي نظر مجلس الأمن إلى الأحوال التي تحتمل أن تعرض السلم والأمن الدوليين للخطر, كما أن لكل عضو من الأمم المتحدة - طرفا في النزاع أم لا- أن ينبه مجلس الأمن إلى أي نزاع أو موقف من النوع المشار إليه, بل إن لكل دولة ليست عضوا في الأمم المتحدة أن تنبه مجلس الأمن إلى أي نزاع تكون طرفا فيه, شرط أن تقبل مقدما, في خصوص هذا النزاع, إلتزامات الحل السلمي المنصوص عليها في الميثاق. مع ملاحظة أن هؤلاء غير ملزمين بهذا الإسترعاء ( التنبيه), كما أن استرعاء نظر المجلس لا يلزمه, وإنما يخضع لسلطته التقديرية؛ له أن يأخذ به وأن يصدر قرارا بشأنه, وله أن يقرر أن الموقف لا ينطبق عليه صفة النزاع أو الموقف المشار إليه. كما أن إدعاء أحد طرفي النزاع بأن النزاع أو الموقف من شأنه تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر لا يكفي - في حد ذاته- لإعتبار النزاع كذلك, والأمر - في النهاية- مرده للسلطة التقديرية للمجلس. وللمجلس أن يستعين بما يشاء من الوسائل والإجراءات ( مثل: تشكيل لجنة تحقيق) للوقوف على حقيقة الموقف أو النزاع, وتقدير مدى خطورته من عدمه في تهديد السلم والأمن الدوليين أو خرقهما.
ولمجلس الأمن - ثانيا- إذا كان هناك نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر, أن يدعو أطراف النزاع إلى أن يسووا ما بينهم من نزاع بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية, أو أن يلجئوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية, أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها, إذا رأى ضرورة لذلك. كما له - في أية مرحلة من مراحل هذا النزاع ( قبل وصول النزاع إلى مرحلة تعريض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر أم بعده)- أن يوصي بما يراه ملائما من الإجراءات وطرق التسوية ( كإيفاد الأمين العام للأمم المتحدة للوساطة بين أطراف النزاع أو تفعيل سلطاته المقررة في الفصل السابع), مع مراعاة ما اتخذه المتنازعون من إجراءات سابقة لحل النزاع القائم بينهم ( التي ثبت فشلها وعدم جدواها). وأن المنازعات القانونية يجب على أطراف النزاع - بصفة عامة- أن يعرضوها على محكمة العدل الدولية وفقا لأحكام النظام الأساسي لهذه المحكمة.
على كل حال؛ فإن ما يتخذه مجلس الأمن من قرارات وفقا للفصل السادس لا تعدو أن تكون مجرد توصيات ليست لها قوة ملزمة, ولمن صدرت هذه التوصيات في حقهم حرية قبولها أو رفضها. وإن كانت الدول - في حالة الرفض- غالبا ما تسوق المبررات والأسانيد لتبرير موقفها الرافض لقبول التوصية ( مثل: أن الموقف ليس نزاعا, أو أن النزاع معروض أمام محكمة العدل الدولية, أو أن ذلك يُعد تدخلا في شئونها الداخلية,.. إلخ). غير أن تغيير الأساس الذي تعول عليه هذه القرارات من مجرد توصيات إلى أنها متخذه وفقا لأحكام الفصل السابع ( المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين) كانت قرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بما فيهم أطراف النزاع [4].
ج- الأمين العام:
الأمين العام هو الموظف الإداري الأكبر في الأمم المتحدة, ومن أجل ذلك فإنه يتولى أعماله - بصفته هذه- في كل اجتماعات الهيئة بما فيها اجتماعات الجمعية العامة ومجلس الأمن. وبالنسبة لدور الأمين العام في حفظ السلم والأمن الدوليين, فإن للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين [5]. كما له أن يخطر الجمعية العامة بأي نزاع, وأن يقوم بتشكيل لجان التحقيق للتحقيق في المسائل المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين, كما قد يُكلف ( من قبل المجلس أو الجمعية) للوساطة بين أطراف النزاع.
وهكذا يتبين بجلاء أن وسائل تسوية النازعات الدولية بالطرق السلمية لم تعد قاصرة على الدول, بل أصبحت المنتظمات الدولية من أولى الملاجئ التي تلجأ إليها الدول لتسوية منازعاتها الدولية.
[1] الجدير بالذكر أن ميلاد المنظمات الإقليمية تسبق ميلاد المنظمات الدولية نفسها, ولذلك نصت المادة 21 من عهد عصبة الأمم على أنه:" لا شئ في هذا العهد يمكن أن تعتبر أنها تؤثر على صحة الإرتباطات ( التعهدات) الدولية ( مثل معاهدات التحكيم) أو التفاهمات الإقليمية ( مثل مبدأ مونرو) لتأمين صيانة السلام". ومن هنا يبدو أن عصبة الأمم قد أجازت وجود التنظيمات ( التعهدات) الإقليمية خصوصا إذا كانت تهدف من وراء وجودها تأمين صيانة السلام الإقليمية.
ثم لما جاءت منظمة الأمم المتحدة أفردت في ميثاقها فصلا للتنظيمات الإقليمية ( الفصل الثامن), وجاء في المادة 52/ أ منها بأنه:" ليس في هذا الميثاق ما يحول دون قيام تنظيمات أو وكالات إقليمية تعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدولي ما يكون العمل الإقليمي صالحا فيها ومناسبا, ما دامت هذه التنظيمات أو الوكالات الإقليمية ونشاطها متلائمة مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها". وفي الحقيقة إن الهدف من هذا النص هو التأكيد على عدم تعارض منظمة الأمم المتحدة مع وجود المنظمات الإقليمية خصوصا تلك التي تسعى إلى تحقيق مقاصد الأمم المتحدة وأهدافها ومراعاة مبادئها. بل إن ميثاق الأمم المتحدة ( في المادة 33) عدد " اللجوء إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية" من ضمن الوسائل السلمية التي يتعين على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر.
كما أوصت المادة 52/ ب بأن:" يبذل أعضاء الأمم المتحدة الداخلون في مثل هذه التنظيمات ( الإقليمية) أو الذين تتألف منهم تلك الوكالات كل جهدهم لتدبير الحل السلمي للمنازعات المحلية عن طريق هذه التنظيمات الإقليمية أو بواسطة هذه الوكالات, وذلك قبل عرضها على مجلس الأمن". وأوصت الفقرة التالية ( م 25/ ج) مجلس الأمن بأن:" يشجع على الإستكثار من الحل السلمي لهذه المنازعات المحلية بطريق هذه التنظيمات الإقليمية أو بواسطة تلك الوكالات الإقليمية بطلب من الدول التي يعنيها الأمر أو بالإحالة عليها من مجلس الأمن". وبالرغم من أن الظاهر من إلزام الدول أعضاء الأمم المتحدة بأن تبذل كل جهدهم لتدبير حل منازعاتهم الإقليمية بواسطة هذه المنظمات أو من أنه على مجلس الأمن أن يشجع على الإستكثار من الحل السلمي بواسطة هذه المنظمات هو الوجوب, إلا أن الفقرة الرابعة من المادة ذاتها جعلت الأمر اختياري بتأكيدها أن ذلك لا يُعطل بحال من الأحوال تطبيق المادتين 34 و35؛ والتي تُعطي للمجلس أن يفحص أي نزاع أو موقف ( قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو قد يثير نزاعا), أو لأي عضو بالأمم المتحدة ( أو غير عضو بشروط المادة 35/ ب) أن تنبه المجلس أو الجمعية إلى أي نزاع أو موقف من المشار إليه.
وأخيرا جاءت المادة 51 لتؤكد على الحق الطبيعي للدول, فرادى أو جماعات ( إقليمية), في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاءها. ومن هنا يتضح أن المنظمات الدولية الإقليمية أصبحت جزءا من النظام الدولي المعاصر بل أصبح دورها على الصعيد الإقليمي يفوق دور الأمم المتحدة ذاتها سواء على على المستوى العالمي أو هذا الإقليمي.
[2] من ذلك قرار الجمعية العامة رقم 2045 عام 1965 والتي لفتت فيها نظر مجلس الأمن إلى أن الموقف في جنوب أفريقيا يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين, وأارت إلى ضرورة تطبيق الإجراءات المنصوص عليها في الفصل السابع لردع حكومة جنوب أفريقيا عن سياستها العنصرية ( الأبارتيد).
[3] لم تُعد هذه الجمعية قائمة من الناحية العملية منذ عام 1958. انظر: د/ مفيد محمود شهاب, المنظمات الدولية, الطبعة الثانية, 1974, دار النهضة العربية, القاهرة, ص 265, 266.
[4]وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية في الفتوى الصادرة عام 1971 المتعلقة بالآثار القانونية المترتبة بالنسبة للدول على استمرار وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا رغم قرار مجلس الأمن رقم 276, بقولها:" إن مجلس الأمن قادر على أن يضفي صفة الإلزام على أي تصرف صادر عنه يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين, وذلك بصرف النظر عن التسمية التي أطلقتها عليها الميثاق". ومن ثم فإن أي تصرف صادر عن مجلس الأمن يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين يعتبر - من حيث المبدأ- ملزما للدول الأعضاء بمن فيهم أطراف النزاع, بصرف النظر ما إذا كان التصرف توصية ( صادرة وفقا لأحكام الفصل السادس) أو قرار ( صادر وفقا لأحكام الفصل السابع). بمعنى آخر: أن القرار الصادر عن المجلس بالرغم من أنه لا ينص صراحة استناده إلى أحكام الفصل السابع من الميثاق, إلا أنه - لتعلقه بحفظ السلم والأمن الدوليين- يمكن أن يرتب آثارا ملزمة.
[5] من ذلك قيام الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة تريجفي لي بتنبيه مجلس الأمن عام 1950 إلى أن الوضع في كوريا يُعد تهديدا للسلم والأمن الدوليين, كما قام خلفه داغ همرشولد عام 1960 بتنبيه المجلس إلى الوضع ( الحرب الأهلية) في الكونغو بإعتباره تهديدا للسلم والأمن الدوليين.
.................................................. ..................................................
