لجنة التحقيق كإحدى صور تقصي الحقائق
الكلمات المفتاحية: لجنة التحقيق, تشكيل لجنة تحقيق, تقصي الحقائق, المنازعات الدولية, أطراف النزاع.
1- مقدمة:
لقد أثبتت لجان التحقيق قدرتها ونجاعتها في تسوية الكثير من المنازعات الدولية بإعتبارها وسيلة من شأنها تقصي وإظهار الحقائق.؛ فما دام كل طرف في النزاع يعتقد أنه المحق والآخر هو المخطئ, فإن ما ينقصهم هو معرفة من المحق ومن المخطئ حتى يتم تسوية نزاعهم, وهذه هى وظيفة لجنة التحقيق.
وتأتي اتفاقية لاهاي عام 1899 ( الإتفاقية الخاصة بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية) في مقدمة الإتفاقات الدولية التي نصت على اللجوء إلى التحقيق في سبيل تسوية المنازعات بين الدول الأطراف فيها؛ فقد جاء النص على لجان التحقيق, بناءا على اقتراح روسيا. ووضعت بعض القواعد الخاصة بتشكيلها وكيفية عملها, منها: تشكيل لجنة تحقيق دائمة يشترك الأعضاء في الإتفاقية بمرشح أو أكثر عن كل منها, وفي حالة النزاع بين طرف أو أكثر من أعضاء الإتفاقية يتم تشكيل لجنة تحقيق من 5 أعضاء, ويكون لكل دولة أن تختار عضوين من قائمة المرشحين يجوز أن يكون أحدهما إحدى مرشحيها, أما العضو الخامس فيتم اختياره بواسطة الأعضاء الأربعة. كما نصت على أن مهمة اللجنة تقصي الحقائق فقط دون أن يكون لها تقديم اقتراحات أو حلول لتسوية النزاع [1]. ثم جاءت اتفاقية لاهاي الثانية عام 1907 ووضعت المزيد من التنظيمات الإجرائية والمنقحة, مثل: أماكن اجتماع اللجنة, واللغات المستخدمة, وإمكانية إرسال الدول مندوبين لها لتمثيلها ومتابعة أعمال لجنة التحقيق والوقوف على المستجدات, ومعاينة الأماكن, واستدعاء شهود. كما قررت تشكيل اللجنة من خمسة أعضاء يكون لكل دولة طرف في النزاع عضو واحد, أما باقي الأعضاء الثلاثة فيكونوا محايدين [2].
كما اعترفت عهد عصبة الأمم ( سلف الأمم المتحدة) بلجان التحقيق, وهكذا نصت المادة 5 من العهد بأنه:" تنظم جميع مسائل إجراءات اجتماعات الجمعية ( الجمعية العامة للعصبة) أو المجلس ( مجلس أمن العصبة), بما في ذلك تعيين لجان للتحقيق في مسائل خاصة, بواسطة المجلس أو الجمعية, بقرار أغلبية أعضاء العصبة الحاضرون في الإجتماع". ومن المنازعات التي شكلت العصبة لجان تحقيق بشأنها: النزاع بين السويد وفنلندا حول جزر آلاند عام 1920, النزاع بين الدولة العثمانية وبريطانيا حول منطقة الموصل عام 1924, النزاع بين العرب واليهود حول ملكية حائط البراق بمدينة القدس, لجنة تحقيق بخصوصا اجتياح القوات اليابانية للصين عام 1931.
2- تعريف التحقيق:
يمكن تعريف التحقيق بأنه: القيام بتقصي الوقائع والحقائق بواسطة لجنة تنتهي بإعداد تقرير ترفعه إلى أطراف النزاع أو الجهة التي كلفتها. ولنتعرض لعناصرها تفصيلا كالآتي:
أ- تقصي الوقائع أو الحقائق:
إن كثيرا من المنازعات قد تكون غير واضحة في أسبابها أو ملابساتها, وربما هذا ما يفسر تبادل الإتهامات بين الأطراف المتنازعة وإدعاء كل طرف بمسئولية الطرف الآخر, ولذلك كان من أهم أهداف لجان التحقيق هو تقصي الحقائق, ومعرفة المتسبب أو المسئول أو تحديد صاحب الحق المتنازع عليه.
وتبدأ اللجنة بجمع المعلومات الخاصة بالنزاع والوقوف على أسبابه وظروفه وملابساته, وإجراء التحقيقات والتحري حول وقائع معينة ومعاينة الأماكن لإستجلاءها, واستدعاء الشهود واستجوابهم, والتأكد من صحة ادعاءات الأطراف ( مثل لجنة التحقيق التي شكلها مجلس الأمن عام 1991 للتحقق من ادعاءات بعض الدول الكبرى بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل), والتثبت من صحة الأوراق والأدلة, وتلقى الشهادات الخطية والشفهية ودراستها, حتى ولو لم يكن مقدميها طرفا في النزاع طالما كان ضروريا. ويفترض من الأطراف تعاونهم الكامل مع اللجنة في تحقيقاتها ومدها بكل ما تحتاجه أو تطلبه مما يهيئ لها أسباب أداء عملها بكفاءة ( مثل: أوراق ومستندات متعلقة بالنزاع, أو السماح بزيارة أماكن النزاع, أو استجواب الشهود,.. وغيرها).
ب- لجنة التحقيق:
يقوم بالتحقيق وتقصي الحقائق والوقائع لجنة تشكلها أطراف النزاع أو جهة ما, تكلفها بالمهام المطلوبة منها, والتي قد لا تنحصر في مجرد إجراء التحقيقات والتقصي, بل وقد تحدد لها اختصاصات أخرى ( مثل: لجنة فلسطين التابعة للأمم المتحدة بخصوص رعاية الأماكن الدينية في القدس), وغالبا ما يتفق على تشكيل اللجنة وبعض الأمور الأساسية المتعلقة بتشكيلها في اتفاقية ( أو بناءا على قرار تكليفي من محكمة دولية؛ أو منظمة دولية, مثل: لجنة التحقيق الخاصة بفلسطين [3], أو بطلب من لجنة توفيق) يبرمها أطراف النزاع ( أو صادر عن هيئة ما), تاركة لها تحديد الإجراءات التفصيلية المتعلقة بعملها ( قواعدها الإجرائية) لمحض إرادتها. وقد تكون اللجنة مشكلة أصلا, وقد تنشئ بعد النزاع وبناءا على طلب الأطراف.
واللجنة ليس لها عدد محدد من الأعضاء؛ فالأمر منوطه إلى إرادة الأطراف المتنازعة وعددهم أو الجهة التي تشكلها, وإن كان العرف الدولي قد جرى على تحديدهم بعدد فردي ( 3, 5, 7, 9,.. ) حتى يسهل اتخاذ قرارتها ( النصف + 1), وفي حالة اللجان المشكلة بواسطة الأطراف يكون لكل طرف في النزاع حرية اختيار عضو ينوب عنه. وأعضاء اللجنة غالبا ما يكونوا خبراء متخصصين في موضوع النزاع؛ فإذا كان النزاع عسكريا أو فنيا أو قانونيا كان خبراء اللجنة كذلك.
وإذا كان تشكيل اللجنة الأصل فيه حرية الأطراف, إلا أنه إذا وجدت معاهدة أو اتفاقية دولية تنص على وجوب تشكيلها في حالة نشوب نزاع بين الأعضاء فيها, فحينئذ يلتزم الأطراف بتشكيلها بمجرد نشوب النزاع في الموضوع المنصوص عليه فيها. ويجوز للأطراف في أي نزاع أن تتفق في أي وقت على أن تطلب من لجنة توفيق أو محكمة تحكيم خاصة؛ أن تجري تحقيقا وأن تثبت الوقائع المسببة للنزاع. وما لم تتفق الأطراف على غير ذلك, تعتبر نتائج الوقائع التي تنتهي إليها اللجنة أو المحكمة باتة بين الأطراف. ويجوز للجنة, إذا طلب منها ذلك جميع أطراف النزاع, أن تضع توصيات تشكل, دون أن تكون لها قوة القرار, مجرد الأساس الذي تستند إليه الأطراف في إعادة النظر في المسائل المسببة للنزاع.
واللجنة ليس لها مهلة زمنية معينة؛ فقد تحل بعد تشكيلها أو فور انتهاء عملها, وقد تستمر في عملها لسنوات. وربما تكون دائمة تتبع الهيكل التنظيمي ( أو الإداري) لمنظمة أو محكمة ( دولية أو إقليمية).
ج- تقرير اللجنة:
بعد انتهاء اللجنة من عملها تقوم بإعداد تقرير تخلص فيه بنتائج تحقيقاتها وأعمالها, ثم ترفعه إلى أطراف النزاع أو الجهة التي كلفتها. وتقرير اللجنة غير ملزم للأطراف حتى لو أشارت بصورة قاطعة على صحة إدعاءات إحدى الأطراف المتنازعة أو أحقيته في الشئ المتنازع عليه. ومع ذلك فإن تقرير اللجنة قد يكون له دور هام في حسم إدعاءات أطراف النزاع؛ خصوصا إذا كانت اللجنة مكلفة من محكمة أو منظمة دولية والتي قد تبني عليه حكمها أو قرارها.
[1] في أثناء الحرب اليابانية الروسية عام 1904 قامت السفن الحربية الروسية بإغراق الباخرة الإنجليزية " دوكر بانك" اعتقادا منها بأنها يابانية, وحدث نزاع بين روسيا وبريطانيا وتبادلت الإتهامات, وتطبيقا لإتفاقية لاهاي اقترحت فرنسا تشكيل لجنة تحقيق, ووضعت اللجنة تقريرها بعد الإنتهاء من أعمالها ملقية المسئولية على البحرية الروسية بأنها لم تبذل جهدا كافيا للتحري عن السفينة البريطانية والتأكد من أنها سفينة يابانية أم لا, تاركة لهما حرية قبول نتائج تحقيقاتها. ووافقت روسيا وبريطانيا على تقرير اللجنة, ثم بعد مفاوضات بينهما وافقت روسيا على دفع تعويض مالي عن إغراق السفينة البريطانية.
[2] لدور لجان التحقيق في تقصي الحقائق والوقوف على أسباب النزاع وملابساته, قررت الولايات المتحدة إبرام معاهدة مع حوالي 30 دولة " معاهدة بريان" فيما بين عامي 1913 - 1914 على تشكيل لجان تحقيق فور حدوث نزاع بينها وبين أيا من هذه الدول. وتشكل اللجنة بمجرد طلب أي طرف من أطراف النزاع. وتتكون هذه اللجان من 5 أعضاء يكون لكل طرف اختيار عضو لها, أما الثلاثة الآخريين فيتم اختيارهم من رعايا دول ليست طرفا في النزاع, وبعد انتهاء اللجنة من عملها تضع تقريرها أمام أطراف النزاع. وتقرير اللجنة ذات صفة اختيارية وغير ملزم, ولأطراف النزاع مطلق الحرية في الموافقة على ما جاء به أو رفضه.
[3] أنشئت هذه اللجنة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 106 من 11 عضوا, وبناءا على تقريرها الذي وضعته أوصت الجمعية العامة - في دورتها العادية عام 1947- بتقسيم دولة فلسطين.
.................................................. ..................................................
